ثأر:قصة قصيرة للقاص مصطفى الحاج حسين من سوريا

/// مصطفى الحاج حسين … قصة : ثأر . – (( حدث ما توقعته ، فما إن استلم الإدارة ، ووضعَ مؤخرته على كرسيها ، حتى أرسل بطلبي . شكوكي تقودني إلى الاعتقاد بأنّ المدير ، لم ينتقل إلى الشركة إلاّ من أجلي ، وأؤكد بأنّهُ يعرف أنّي أعمل هنا ، وإلاّ فمن أين علم بوجودي ؟!.. ليستدعيني بهذه السّرعة !. نعم … كنتُ محقاً عندما فكّرتُ بأن أقدّم استقالتي لن أدعه يشمتَ بي ، لن أعطيهِ فرصة للإنتقام ، سأقذفُ استقالتي بوجههِ فورَ دخولي ، وإذا وجدتُ منهُ حركة أو كلمة يمكن أن تسيء إليّ، سأصرخ بوجههِ دونَ خوفٍ : ـ ما زلتَ بنظري .. ذلكَ الطّفل ..ابن ( الزّبال ) ، وإن صرتَ مديراً كبيراً . )) . ولأنّهُ مستاءٌ من مديرهِ الجّديد ، ولأنّهُ لا يكنّ له سوى البغض ، فقد قررَ أن لا يطرقَ الباب ، يرفض أن يقفَ للإستئذان ، أمسكَ القبضة بعنفٍ ، فتحَ بجلافةٍ ، وما إن أبصرَ المدير جالساً خلفَ طاولتهِ ،حتّى حدجهُ بنظرةٍ قاسيةٍ ، ممتلئة بالكرهِ والتّحدي . نهضَ المدير بعجلةٍ ، وابتسامة عذبة ترتسمُ على شفتيهِ ، هاتفاً بصوتٍ كلّهُ صفاء : ـ ( حسين ) !!.. أهلاً وسهلاً .. أهلاً وسهلاً . تحرّكَ من وراءِ طاولتهِ ، مادَّاّ ذراعيهِ لملاقاةِ ( حسين ) ، الّذي أدهشتهُ المفاجأة . للوهلةِ الأولى ، ظنَّ أنَّ المدير يسخر منه ، وراحَ يقتربُ ببطءٍ وحذرٍ شديدينِ ، غيرَ مصدق أنّه سيضمّهُ إلى صدرهِ ، حيثُ سيلوثُ طقمَ المدير ببزَّتهِ المتّسخةِ . تابعَ المدير ترحابهِ الحارّ ، بينما كان يقترب من العاملِ المتجمّد الملامح ، ليأخذه إلى صدرهِ ، ويضمّه بقوةٍ وشوقٍ ، ثمّ ينهمر على خديهِ بالقبلاتِ الحارّةِ ، ورغم هذا ظلّ( حسين )محافظاً على صمتهِ وجموده ِ وعادت عباراتُ التّرحيب من.المدير : ـ أهلاً ( حسين ) ، والله زمان .. كيف أحوالك ؟ . لأوّل مرّة يجد العامل نفسه مضطراّ لأن يحركَ شفتيه ِ ويتمتم ببرودٍ جافٍ : ـ أهلاً حضرة المدير . قهقه المدير من هذهِ العبارة الرَّسمية ، بينما سيطر الرّعب على قلبِ ( حسين ) ، فأخذَ يتراجع إلى الخلفِ ، في حين امتدّت يده إلى جيبهِ ، لتقبض أصابعه على استقالتهِ الجّاهزة ، كسلاحٍ يشهره بوجهِ المدير ، لكنَّ المدير اقترب ، ليقولَ بلهجةِ المعاتبِ : ـ أيّ ( حضرة مدير ) يا ( حسين ) ! ، أهكذا تخاطبني ؟!.. سامحكَ الله ، نحنُ أخوة وأصدقاء . لم يجد ( حسين ) ، سهولة في أن يطمئنَّ لشخصِ المدير هذا ، فهو يرى كلّ كلمة ينطقها ، أو حركة يقوم بها ، سخرية منه ، لكنّه في الوقتِ ذاتهِ ، كانَ في منتهى الحيرة والاندهاش ، لأنّه يكاد يلمس الصّدق من نبراتِ صوت المدير ، ومن نظراتهِ التي تفيض بالسّعادةِ والمودّةِ ، وتساءلَ في أعماقهِ الحائرة : ـ أهذا معقول !؟.. هل أصدقه وأطمئنّ إليهِ ؟!.. هل نسي ما فعلته به ، ونحنُ أطفال ؟!..أهو متسامح إلى هذه الدرجة ؟!.. أم يكذب وينصب لي فخاً ؟!. وانتبهَ إلى صوتِ المدير يطلب منهُ الجلوسَ على الكرسي الوثير . في البدايةِ ارتبكَ ، وحاولَ الاعتذار ، لكنّ الحاحَ المدير ، جعلهُ ينصاعَ ، ويقترب ليجلس على حافةِ الكرسي ، وكأنّه يهمّ بالإنزلاق . لم يجلس المدير خلفَ طاولته ، بل جثم على كرسي قبالتهِ ، وبعدَ أن ربّتَ بيدهِ على كتفِ( حسين ) همسَ : ـ مشتاقٌ إليكَ يا ( حسين ) … أكثر من عشرينَ سنة ، ونحنُ لم نلتقِ . فكّر أن ينهضَ عن كرسيهِ ، ويرمي استقالته بوجهِ صديقه ومديره ، ليخرج مسرعاً من هذاالمكتب لم يعد يطيق مثلَ هذا العذاب ، فهو في أوجِ حيرته هل يأخذ راحته مع صديقهِ المدير ؟ ! أو يستمرّ في حذرهِ ومخاوفهِ ، إنّه لا يملك دليلاً واحداً ، ولو صغيراً على أنّ المدير يسخر منه . قدم المدير إليهِ لفافة تبغٍ ، وحينَ التقطها بأصابعهِ الرّاعشة ، كانَ المدير قد أخرجَ قدّاحته ، وخيّل إليهِ أنّ المديرَ سيقوم باحراقِ ( شواربهِ ) الغزيرة ، جفلَ للوهلةِ الأولى ، تراجعَ إلى الخلفِ ، لكنّه أدركَ أنّهُ يبالغ في مخاوفهِ ، فدنا ليشعلَ لفافتهِ : ـ تصوّر يا ( حسين ) لم أكن سعيداً باستلامي الشّركة إلّا بعدَ أن قرأت اسمكَ بينَ أسماء الموظفين .. أنا بصراحة انتقلت إلى هنا ، دونَ رغبة منّي . همسَ بسرّهِ ، بعدَ أن نفثَ دخّان لفافتهِ بأنفاسٍ متقطعةٍ ، مضطربة : ـ بالطّبع ستكون سعيداً ، بوجودي ، فها أنتَ تقابلني منتصراً ، من كانَ يصدّق أنكَ ستكون مديراً عليّ ذات يوم ؟! أنا الذي كنتُ أهزأ منكَ في المدرسةِ والأزقّة . ومرة أخرى .. يخرجُ من شرودهِ ، على صوتِ المدير : ـ ماذا تحبّ أن تشربَ ؟. ـ أنا .. لا شيءَ .. شكراً .. ياحضرة المدير . للمرةِ الأولى تنعقدُ الدّهشة على وجهِ المدير ، وتذبل ابتسامته : ـ مابكَ يا ( حسين ) ؟!!..لماذا تخاطبني بهذه الطريقة ؟!.. هل ستكون العلاقة بيننا رسمية ؟!. حاول أن يجمعَ شتات قواه ، ليهتفَ بصوتٍ حازم : ـ نعم يا جنابَ المدير ، أتمنّى أن تكونَ العلاقة بيننا رسمية ، ورسمية جداً . اتّسعت الدّهشة على وجهِ المدير المكتنز ، أرجع رأسه ، وأرسل نظراته المستطلعة ، لتقرأ ما يجول في رأسِ صديقه القديم : ـ ( حسين ) .. ماذا جرى لكَ ؟!.. أخبرني أرجوك ..هل هناكَ ما يضايقك ؟!. ولأنّهُ مازالَ محتفظاً ببقايا عزيمتهِ ، قال : ـ بصراحة ياحضرة المدير ، أنا حائر ، أكاد لا أفهمك ، وأشكّ بأنّكَ تسخر منّي . دهشة المدير بلغت ذروتها ، مما جعلتهُ يهتف باستغرابٍ شديد : ـ أنا أسخر منكَ !!!.. معاذ الله …أنتَ صديق طفولتي . نهضَ عن الكرّسي ، الذي لا يتناسب وبزّته .. قائلاً : ـ أنا لا أنسى كيفَ كنتُ أعذّبكَ ، وأسخر منكَ أيّام الطّفولة . انفردت أسارير المدير ، وعادت إليهِ الإبتسامة : ـ معقول يا ( حسين ) !!!.. هل تظنّني حاقداًعليكَ؟.. كنّا أطفالاً .. اجلس ياصديقي .. اجلس ، حدثني عن أحوالك ، وعن زوجتك ، وأولادك ، ثم أخبرني إن كنتَ مرتاحاً بعملكَ هنا ؟ . قال المدير هذا الكلام ، في حين كانت يده ممتدة نحو صديقه ، ليرغمه على الجلوس . همس ( حسين ) بتلعثمٍ واضحٍ : ـ أنا خجل منكَ .. ومن نفسي ، لقد كنتُ طفلاً شريراً عذّبتكَ كثيراً ، وأهنتكَ . نظرَ المدير صوبَ صديقه بحنانٍ ومودّة : ـ هل تصدق ، إنّي أحنّ إلى أيامِ الطّفولة تلك ، أنتَ صاحب فضل عليّ ، فلولا سخرياتكَ منّي، ومن والدي عامل التّنظيفات،لما تابعت تعليمي ،كنتَ أنتَ بمقالبكَ المريرة دافعي للتحدّي والدّراسة . في تلكَ اللحظة ، طفرت من عينيّ ( حسين ) دمعتانِ صغيرتانِ حارّتانِ ، قفزَ ليحتضنَ صديقه ، الّذي طالما أمعنَ في تعذيبهِ ، همسَ بصوتٍ تخنقهُ العبرات : ـ أنتَ عظيم يا ( عبد الجليل ) ، طوال عمركَ كنتَ أفضل منّي ، أرجوكَ سامحني . تربّعت الدّهشة على وجهِ الآذن ، وهو يدخل حاملاً القهوة ، لقد رأى المدير الجّديد المفرط في أناقته ، يعانق العامل ( حسين ) ، ذي البزّة القذرة ، المتّسخة ، وكانا ذاهلين عنه ، في عناقٍ طويل . مصطفى الحاج حسين . حلب

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

تكويع:للشاعر عبد الرحمن القاسم الصطوف من سوريا

ذات غروب :نص نثري للكاتبة أمل عطية من مصر

خلف الإعصار:نص نثري بقلم الاستاذة منى غجري