تلاشي: قصة قصيرة للاديب حميد نعمة عبد من العراق

قصة قصيرة تلاشي ........ تراءى له الماضي غمامة شاحبة, وخطر له وجهها غيمة بيضاء, لوحة سريالية لا يملك لها تفسيراً, بعد أن امتزجت ألوانها. ليس بمقدوره تذكر البداية, ولا كيف كانت النهاية, ولم يكن باستطاعته تحديد شيئاً, وكل ما يتذكره أن برقاً ساطعا لمصابيح هاجمته وأغشت بصره, وبركة دماء لامعة تحت ضوء القمر أفزعته, ثم هالة معتمة أطبقت على عالمه. سألتَهُ ما بك؟ فرد بغمغمات مبهمة, وعيناه مشدوهتان, تحدقان في الفراغ, وكأنه ينظر إلى أشباح, وهو يشير إلى مصابيح سيارة قادمة, وحين كررت سؤالي أدار لي ظهره وهرب, كأن تلك السيارة التي أشار إليها تلاحقه. قبل ما يقارب العامين, وفي مساء ربيعي, كان على موعد للقاء امرأة, لم يرها, ولم يسمع صوتها, إلّا عبر الهاتف. خرج قبل الموعد بربع ساعة, كعادته يافعاً تنطق قسماته قوة وصدقاً, مهندماً, هادئاً, مصفف الشعر, حليق الذقن, وقد أضفى شعرة الفاحم لبشرة بادية الصحة, بياضاً ناصعاً. يعبق بعطر ثابر على استعماله لسنين. كانت جبهته تلتمع بمشاعر فرح صادق, بعد أن أمضى الليل بمشاعر متضاربة, بين أن يصدق تلك المرأة التي دعته للقاء, وبين أن ينسى الموضوع برمته. لكن ما تمتعت به تلك المرأة من ثقافة, وما أغدقت عليه من عواطف, وصدق لمسه في أحاديثها اليومية, وعدم اختلال أهدافها, إضافة إلى أن المصادفة التي ربطتهما والتي أسهم _هو_ في إحداثها ولم تتدخل _هي_ في خلقها, كانت أسباباً للتصديق في أنها لم تفكر في جعلها علاقة عابرة, أو قضاء وقت مسلٍ. لذلك قرر أن يحتوي تلك المرأة بصفاء, دون أن تعكره فكرة شهوانية, يحتوي ثقافتها, وشفافيتها, وقيمها, وظروفها التي لم تبق منها شيئاً إلّا أشبعته إيضاحاً.. في السادسة والنصف مساءً استقل سيارة أجرة أوصلته إلى المكان المتفق عليه, وقبل أن تتحرك السيارة ألقى على هندامه المقوس على زجاج السيارة, نظرة أخيرة, فارتسمت على وجهه ابتسامة رضا, وهو يرى بذلته السوداء تبرز نصاعة قميصه الأبيض المتسق مع ربطة عنق حمراء. لكنه سرعان ما ابتأس, فقد أنسته لهفة اللقاء هاتفه الخلوي . ظل بصره يمسح الشارع من بدايته حتى النهاية. غير أن تجاوز وقت وصوله أكثر من ساعة, انعكس على اندفاعه وعزيمته, فانشغل بتحريك قدميه, ومسح جبهته, وتسوية هندامه. وفي اللحظة التي همَّ فيها العودة ونسيان اللقاء, لمح في طرف الشارع امرأة تتقدم باتجاهه, حتى وصلت إلى المكان المتفق عليه ووقفت. مرت أكثر من نصف ساعة دون أية إشارة منها تؤكد له أنها هي المقصودة, أو هو المقصود. لوح لها بكفه, فلم تصدر منها أية استجابة, تخطى أمامها مبتسماً، أشاحت بوجهها, ما أضطره العودة إلى مكانه, مكتفياً بمراقبتها. لماذا لا تستجيب؟ مد يده إلى جيبه محاولاً الاتصال بها, لكنه تذكر أنه قد نسي تلفونه. كيف له أن يجعل المرأة تفهم أنه هو الذي ينتظرها؟ ظل جامدا في مكانه يرسل إليها نظرات حائرة, ثم استدارت بجسدها إلى الجهة المعاكسة, مولية إياه ظهرها, ما ولد لديه شعوراً أنها ليست هي. وبعد نفاذ صبره, وقراره العودة إلى البيت, حاول أن يتجه إليها ويسألها فيما إذا كانت تنتظر أحداً, أو إذا كانت بحاجة إلى أية مساعدة. ورغم أنه لم يستسغ تلك الخطوة, باعتبارها تدخلاً ساذجاً, لكنه لم يجد وسيلة آخرى للتأكد من أن تلك التي تقف منذ ساعة ليست من ينتظرها. كان الظلام قد تكاثف حتى أطبق على الشارع, بعد أن أغلقت أكثر المحال أبوابها, كما ساهم انقطاع التيار الكهربائي في تعميق تلك الحلكة, ولم يتبق غير بصيص أضوية واهنة بعيدة, وأضوية لسيارات تمرق بسرعة. ما أن نزل عن الرصيف باتجاه المرأة, حتى تحركت باتجاهه حركة مفاجئة, تسمر في مكانه منتظراً أن تقطع الشارع, لكنه شعر بالحرج ووجد أنه ليس من المناسب ترك المرأة تتجه له دون أن يتحرك. اندفع باتجاهها, وقلبه يطرق على أضلاعه, وفرغ رأسه من أية فكرة. ولم يكد يصل منتصف الشارع حتى غمرهما ضوء مصابيح سيارة قادمة باتجاههما, ثم صرير احتكاك عجلاتها على أسفلت الشارع, وعبقت بأنفه رائحة احتراق الإطارات. لم ير بعدها سوى ارتفاع جسد المرأة ثلاثة أمتار في الهواء, ثم صوت ارتطامها على الأرض, رمى جسده على الرصيف مبتعدا عن السيارة وظل مبهوتاً, وهو يحدق بجسدها وهي تركل بقدميها الأرض, بعينين جاحظتين مشلولتين, وفم سال منه خيط دم, ثم ما لبثت أن همدت. لم يصدق ما حدث, اجتاحه خوف, واعترته رعدة قبل أن يرى بركة الدم التي ساحت تحت رأسها وحجبت وجهها, أطلق صرخة مدوية تردد صداها, في أرجاء الشارع, الذي كاد أن يكون فارغاً. إلّا أن ثلاثة أشخاص انبثقوا من الظلمة. حملوا المرأة إلى نفس السيارة التي صدمتها, واتجهوا بها إلى المستشفى. بينما ظل واجما يرقب بركة الدم, ولا يدري هل هي تلك المرأة التي اتفق معها على اللقاء. عاد صراخه مصحوباً بكلمات مجروحة. تلفت حوله ثم ركض كالمجنون خلف السيارة التي توارت, وغاصت في الظلام. داوم ولأشهر, على الخروج من البيت وحيداً, وبأوقات متفاوتة, يذرع أزقة المدينة وشوارعها, ثم يتسمر أمام المكان الذي صدمت فيه المرأة. بدأ جسده بالهزال, حتى تحول إلى هيكل جاف, استطال شعر رأسه وذقنه, والتصقت ملابسه على بجسده, وتغيرت مشيته وحركاته, وفقد السيطرة على إفرازات فمه وأنفه وإفراغه, اتسعت خطواته, وزادت عشوائية حركات ذراعيه. وكان جهازه الإرادي قد توقف عن السيطرة على مجمل عضلات جسده. فبدأ يتحرك دون انضباط أو انتظام. يأتي في أي وقت, ويقرفص على الرصيف المحاذي لمكان الحادث, وفي أحيان كثيرة يقضي الليل كله هناك حتى الصباح. في منتصف ليلة شتائية باردة, والمطر على أشده, خرج مسرعاً, يخبط الشارع بضربات أقدامه العشوائية وبكلمات غير مفهومة, وأصوات تهدأ معاتبة مرة, وترتفع مهددة أخرى, وقد فرغت الشوارع وأطبق الظلام. كانت عيناه تبحثان في الأرصفة, وفجأة توقف وقد التصقت عيناه بحجر بحجم كرة القدم, رفعه بحرص وهو يتلفت مذعوراً حتى توقف عند المكان الذي قتلت فيه المرأة, وظل يرقب الطريق بلا حراك, وحين لاحت أضوية سيارة قادمة باتجاهه, تحفز وهو يتحسس الحجر, وراح يضغط عليه بكلتا يديه, رفعه أعلى من رأسه, وما أن اقتربت السيارة, التي عكست أضويتها وجهه المتحجر, وعينيه الجاحظتين, وشعر رأسه المنفوش, حتى هجم رامياً جسده والحجر, باتجاه مصابيحها الأمامية. ارتطم رأسه بمقدمتها, فتدحرج وقد جرفته السيارة لخمسين متراً قبل أن تتوقف. تمدد جسده تحتها في منتصف الشارع. اختلط دمه مع سيل المطر الهاطل, بعد أن عبثت به إطاراتها. نزل السائق مرعوباً, حدق في وجهه الذي غطته الدماء, ثم أزاحه إلى الرصيف, تلفت في الأنحاء ثم انطلق بسيارته متوغلا في الظلام ... @@@@

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

تكويع:للشاعر عبد الرحمن القاسم الصطوف من سوريا

لأجلك:للشاعرة لمياء فرعون من سوريا

دموع الورد:بقلم الاستاذة منى غجري من سوريا