الجريمة:قصة قصيرة للقاص المصري عادل ابو عويشه
الجريمة (قصة قصيرة )
بقلم عادل ابو عويشة
جاءته تمشي على استحياء ، تدفعها بقايا ذكرى نديّة و يجذبها بريق يسكن الحنايا منها ما برح يومض كلّ حين . للحظة .. ظلّت صامتة مخفوضة الأجفان ، ثمّ بادرته :
_ عايزاك في خدمة .
أجابها و هو غارق في النشوة ينافح نذر اشتهاء مكبوت ، يتستّر على نفسه و يستميح لها الأعذار : تحت أمرك .. ايه الخدمة دي ؟ .
ترددت قليلا ثمّ قالت : قتل ! .
راح في نوبة من الضحك و قد مال الى الأمام في مقعده مستندا بيسراه الى المائدة واضعا يمناه على جبهته ثمّ وجًه اليها سؤالا يقطر تعجّبا و قد توارت ضحكته قليلا : قتل ؟! .
أجابته باصرار : أيوه .
تفجّرت ذاكرته ، تراءى له اليوم الذي زلّت فيه قدمه اذ غرر به ، فمكث في السجن بضع سنين ، كانت كفيلة أن تنتزع منه الايمان حجرا بعد حجر حتى تقويض دعائمه .
حدجها بنظرة و سألها : من ؟ .
تنهّدت ثمّ نطقت اسمه كأنها تتقيأ الاجابة ، ثمّ أردفت : كلّ الناس متأكّدة و أنت لا يخفى عليك ، لكنّ الألسن تتحجّر قبل أن تعلن ما يدور همسا و اجماعا على أنّه قتل زوجي .
نهض متثاقلا ، دار حول المنضدة قائلا بشرود كأنه يخاطب نفسه :
_ قصدني كثيرون في أعمال اجرامية و قبلت من أجل المال .
نهضت مسرعة و استوت في مواجهته ، أخرجت من ثيابها لفافة و وضعتها أمامه قائلة :
_ هذه حليً ذهبية كلّ ما تبقى لي من زوجي ، خذها و ... .
قاطعها بلهجة لا تخلو من اعتذار و عتاب :
_ لا أقصد لكنني لم اتوقّع منك هذا الطلب .
قالت بتوسّل : ليس طلبا بل رجاء . أردفت بضيق : كم راودني عن نفسي في حياة زوجي و لم يتراجع بعد أن قتله و أنا ضعيفة ، انّه كابوس . ثمّ أجهشت بالبكاء .
أعاد اليها اللفافة ، جذب شهيقا عميقا ، أرسله زفيرا بطيئا و قال :
_ سأريحك منه .
ودّعته و انصرفت .
عندما اختلى بنفسه تساءل : هل وافق على ما أشارت اليه ارضاء لها ؟ أمازالت بقايا عاطفة مشبوبة تسكن الحنايا منه فتحرّكت لمجيئها من مكامنها ؟ . ترى .. هل مجرّد ذكريات حلوة أم مازال راغبا فيها ؟ أيتزوّجها ؟ لم لا ؟ أتقبله زوجا لها و أبا لأولادها و هي تعرف عنه ما تعرف ؟ لكنّ أباها رفضه من فبل .. و أين أبوها ؟ مات ، أمها كذلك ، أليس في عائلتها من يحميها ؟ .
شعر باختناق ، خرج يتكفّف شيئا من هواء ، سار في ضوء القمر ، تذكّر .. كيف يقبل ذلك و قد أعلن توبته بينه و بين نفسه ؟ و قبل ذلك بينه و بين ربّه ؟ ، لقد عاهد شيخ المسجد على عدم اقتراف ما يغضب الله ، هل يحنث ؟ لكن .. أليس هذا الشخص المطلوب قتله هو من غرّر به ؟
أودع السجن بسببه و تنكّر له ؟ كم حاول نسيانه و نسيان كلّ ما يتعلّق به .. السرقة .. السجن .. النذالة .. التصاغر أمامه .. هل يستمر ذلك ؟ الى متى ؟ الى متى ؟ ، دار به المكان ، أمسك رأسه ، لم يحتمل الوقوف ، اقترب من الأرض .. خارت قواه .
في المسجد عقب صلاة العشاء دنا من الشيخ سعيد ، جلس مطرقا ، تحفر عبرات عصيّة من بؤقي عينيه خطّين في وجنتيه . ربت الشيخ على كتفه ثمّ قال :
_ هذه الدموع بداية الطريق .
قصّ عليه ما دار بينه و بين المرأة ، بادره محدّثه :
_ مازلت ترغب في الزواج منها ؟ .
_ أيوه .
_ بلاش مسألة القتل دي و أعرض عليها الزواج و لن يجرؤ أحد على ايذائها ! .
_ هل تقبل هي ؟ .
_ هي قصدتك لحمايتها ، كان من الممكن تتقدّم ببلاغ في الشرطة ، لكنها لا تريد أن تفتح باب القيل و القال حولها ، توكّل على الله و هو عنده الخير .
أحسّ بالطمأنينة تسري في أوصاله ، نهض منشرح الصدر ، ودّعه الشيخ بابتسامة ودودة قائلا :
_ ربّنا معاك ! .
( تمًت ) مع تحياتي عادل ابو عويشة
تعليقات
إرسال تعليق